رواية سيرك يمر للكاتب الفرنسي باتريك موديانو

رواية سيرك يمر للكاتب الفرنسي باتريك موديانو

 

يُعد “باتريك موديانو” كاتب فرنسي مهم حاصل على جائزة غونكور للرواية سنة 1978، كما منح جائزة نوبل للآداب سنة 2014. رواية “سيرك يمر” نشرت للمرة الأولى سنة 1992، وقد نقلت للعربية، بترجمة الشاعرة اللبنانية “دانيال صالح”، ضمن مشروع كلمة الصادر عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة سنة 2016، وهي واحدة من ستة أعمال ترجمها المشروع للكاتب.

رواية سيرك يمر: عن ألغاز الأمس

غلاف الطبعة العربية من رواية “سيرك يمر” للكاتب الفرنسي “باتريك موديانو”.

ثمة منظور جامع يمكن من خلاله فحص كل أدب هو منظور فعل الكتابة ذاته من حيث المغزى والدلالة. تعبر كل رواية عن ذاتها وقضاياها وكاتبها وسياقها الزمني وأهدافها الخاصة، وتعبر أيضًا، بصورة تختلف اختلافًا طفيفًا من عمل إلى آخر، عن مفهوم التدوين وما يقترن به ضرورةً كالتذكر والتوثيق والاختلاق.

يحكي “باتريك موديانو” قصة رواية “سيرك يمر” على لسان بطلها الذي يعود بالزمن ليعرض أحداثًا مر على وقوعها أعوام عشرة. هذه التفصيلة الصغيرة هي عماد الرواية وما يحملها، وهي ملائمة تمامًا للغرض من النص وهو حمل القارئ -بل وحمل الكاتب لنفسه- على النظر إلى الكتابة من زاوية كونها محاولة لا لاستعادة مشاعر وأحداث الماضي فحسب، والهروب من الحاضر الذي أكبر آفاته أنه لم يمضِ بعد وأنه مسبوق بماضٍ، بل محاولة لترقيع الذكريات، وسعي لحيازة فهم أفضل للوقائع السابقة.

يفترض المرء أن مرور السنوات يسبغ عليه من النضج ما قد يسمح له بنظر أكثر إثمارًا للأيام الخوالي. الصدمة التي تعبر عنها كل صفحة في الرواية بل كل تعبير من تعبيراتها، أن هذا الرجوع لا يخلف إلا مزيدًا من العناء، وشعورًا أكبر بالوحدة، وعرضة أشد للجهل والعجز والارتباك. وفيما تبدو بعض الذكريات حية محفورة في الدماغ، فإن ما يهم يأتي إلى الذاكرة -فإلى السطور- أبهت حتى مما كان في وقته.

يقول:

“غير أن التفاصيل الطبوغرافية لها تأثير عجيب عليّ: فبدل أن تجعل صورة الماضي أقرب إلي وأوضح، تثير لدي إحساسًا موجعًا بأواصر انقطعت إلى غير رجعة، وبفراغ”.

يخبرنا البطل في غير موضع أنه بعد سنوات من وقوع القصة عاود زيارة عدد من الأماكن المتعلقة بها، بل وحادث شخصيات ضمتها الحكاية، لكنه لا يظهر لنا أن هذا التمسك بالذكريات والإصرار على حل ألغازها نفعه بشيء. أيمكن أن يكون هذا النصح الذي تنطوي عليه رواية “سيرك يمر” موجه على مستوى أعمق، مستوى البحث عن أسرار الوجود وعلل الأشياء؟

مزيد من الجهل

الكاتب “باتريك موديانو” صاحب رواية “سيرك يمر”.

يبدأ النص بإيهام بوليسي من خلال ذكر تحقيق تعرض له البطل سارد القصة، يمنح هذا خطورة للأحداث المقبلة فكأنك بلا جهد أعطيتها كلها من الأساسات ما يدعم وجودها قبل ظهورها حتى. يلقى الشاب فتاة تخضع للتحقيق في المكان نفسه فيقرر أن ينتظرها في مقهى قريب. الظريف أن هذا اللقاء الذي هو أساس الحكاية بدأ برغبة في الفهم، محاولة من الشاب لاستيضاح ما أبهم عليه من شأن التحقيق، لكنه لم يفض إلا إلى مزيد من الجهل.

يتضح مع مرور الصفحات أن اللغز الأول وما تبعه لم يوضع ليُحل بل ليبقى. كل شخصية جديدة وكل حدث واقع وكل تقدم في النص يقوي جو الغموض المحيط بالأحداث. المشكلة أنه ليس غموضًا شائقًا مثيرًا للاهتمام، بل تافهًا لا يهم غير صاحبه بالكاد.

حتى الفتى الذي يتلو علينا الحكاية لا يخبرنا عن نفسه الكثير. نعرف أنه في الثامنة عشرة من عمره ونعلم أن أبويه خارج البلد وأنه يقيم مع صديق أبيه الوفي، أما التفاصيل داخل الأشياء والأسباب وراء الأوضاع فمخفية لجعله خيطًا من نسيج حكاية “سيرك يمر” المُلبس.

بين عالمين

رواية سيرك يمر للكاتب الفرنسي باتريك موديانو عن أشياء لا يُصلحها التذكّر!

بعد مشكلة كونه في سن الثامنة عشرة الغريب، فلا هو شخص ناضج التكوين دخل عالم الكبار ولا هو ما يزال طفلًا مُعفًى من القواعد والحدود.. بعد مشكلة عمره حيث يكون الإنسان في ذروة قابليته للتأثر والمفاجأة بمفردات العالم، خاضعًا للحظة غير عادلة من توجب اختيار ملامح مستقبله مع عدم توفر ما يكفي من دراية.. بعد هذه المشكلة يواجه البطل مشكلة أكبر هي مشكلة والديه.

يبدو من خلال القصاصات المتناثرة على طول الرواية أن الأب مجرم هارب أو ما شابه، وأنت تستطيع بالنظر إلى الولد رؤية تأثير ذلك على منظومة قيمه ونظرته لنفسه والناس.

“كنت أشعر بنفسي مرهونًا بالباغين وبطيب خاطرهم. المدرسة التي بقيت فيها ست سنوات والتهديد الداهم بالالتحاق بالجيش كانا يعطيانني الانطباع بأنني إنما أسلب كل لحظة حرية أعيشها، وكأنني أحيا خلسة”.

يؤدي هذا الغياب لمعضلات أصعب من التي يؤدي إليها الحضور، فهل يعني خروج الأب من حياة ابنه أن خلافاتهما قد ارتفعت على سبيل المثال؟ نعلم أن الابن يتطلع إلى العمل روائيًّا وأن أباه لا يوافقه في هذا الاختيار. يفترض أن تحسم هذه القرارات مع غياب المقاومة لكن هذا لا يحدث بالتأكيد. يواجه البطل هنا حقيقة أن غياب العائلة لا يغلق الفصل الخاص بهم في كتابه بل يفتح جديدًا أصعب قراءة وأكثر إشكالًا من الأول. من خلال هذا يمكن فهم السياق الذي يبدو عبره الفرار من البلد هو المخرج الوحيد: مدينة أخرى لا تعرفها ولا تعرفك ولم تكون بداخل جدرانها عقد أيامك. يقول: “إن كنت أريد العودة إلى روما، فمن أجل طرد أشباح هذا الماضي”.

كل ما نملك

غلاف النسخة الفرنسية من رواية “سيرك يمر” للكاتب “باتريك موديانو”.

حيرة البطل حيال حبيبته لم تمنعه من مواصلة التمتع بصحبتها، وحتى فضوله لمعرفة ماضيها لم يكف دافعًا لإجبارها على التكلم أو نحو ذلك. يمكن أن نجد في هذا جانبًا رومانسيًّا طيبًا، فإن شهوة الناس إلى نبش ماضي من يصاحبون تنتهي بالكوارث كثيرًا، وحق المحب الاكتفاء من محبوبه بالموجود دون السعي إلى تملك ما يحيط بالحاضر من الخلف والأمام.

النهاية الخاطفة، حيث تموت البطلة في نصف سطر ببساطة، معبرة من جديد عن مأساة الكتابة الكبيرة التي هي اقتطاع جزء عشوائي من حياة أخرى لا تساوي شيئًا. هذا الموت المختزل يؤكد على أن الفتى أصاب حين قرر الاكتفاء باللحظة الحاضرة عن غيرها، ولعله ما كان ليسامح نفسه لو أنه أهدر وقته المحدود -وكل الوقت محدود- في الانشغال عن لذّات اليوم بغيره مما لا ينفع.

“من أين ينبع ذلك الخوف من أن تختفي؟ لم أكن أعرفها سوى منذ أربع وعشرين ساعة، ولم أكن أعرف عنها شيئًا. حتى اسمها الأول، علمت به من أشخاص آخرين. لم تكن تلزم مكانها، بل تنتقل من موقع إلى آخر وكأنها تهرب من خطر مُحدِق. كان لدي إحساس بأنني لن أتمكن من استبقائها”.

لكن في رحلتهما التي هي مجموعة من الحوارات على هامش التنزه في المدينة على الأقدام وبالسيارة، نراه يعاني أيضًا من غياب العلم بكل ما يحتاج إلى علمه. هذا هو ما يعبر عنه الوقوع في الحب، وهو ضريبة انفتاح باب الاحتمال واتساع مجال حلم: الجهل الذي للعجب يؤدي للأمان لا عكسه. وأما الاستكشاف الأخرق لألغاز الحكاية فهو ذاته استكشاف الإنسان لمن يحب، لربما يساعدك جهلك بهذه الغريبة كما لم يساعدك علمك بأبويك فلم ينقذك ولا أنقذهما.

دعك من حقيقة أن تمنية النفس المستمرة بزوال الحواجز وانكشاف الأسرار تعطي دافعًا للاستمرار، والإنسان بارع في اختراع مبررات تزكّي الحب وتدفع العلاقات للأمام. في نهاية “سيرك يمر”، للكاتب “باتريك موديانو” عندما انكشف لصاحبنا عن فتاته ما يشين ولم تخبره به، لم يتغير شيء. فلأن الحياة تعاش مرة واحدة، ولأن التذكر -كالكتابة والنبش في الماضي- بلا فائدة، فإن هذه اللحظة الحاضرة، المبتورة والفقيرة والداعية للشفقة، هي في الحقيقة كل ما نملك.

السابق
الحمامة رواية للكاتب الألماني باتريك زوسكيند: وحكاية عن الإنسان المذعور
التالي
نظرة على المجتمع المصري في أدب نجيب محفوظ: التفاوت الطبقي نموذجًا!

اترك تعليقاً