مقالة عن قصيدة النثر، بين الترجمة والإبداع د.شربل داغر – لبنان

مقالة عن قصيدة النثر، بين الترجمة والإبداع د.شربل داغر – لبنان

توقفتْ نازك الملائكة، في مقالةٍ شهيرةٍ لها، عند القصيدة بالنثر (كما أسميها)،

ووجدتْ أنها ليست من الشعر، عازية بعض أسباب ظهورها إلى الترجمة.

وهو ما تتبعَها فيه غير ناقد…هذا القول لا يجافي الحقيقة كثيرًا،

لو توقفتُ عند رائد هذه القصيدة الأول، محمد الماغوط،

إذ لم يعرف عن هذه القصيدة غير ما قرأ بالعربية من شعرها المترجَم،

ومن الشاعر سليمان عوّاد في بلدته، السلمية. فهل يصح هذا فيمن كتب هذه القصيدة؟

هذا يصحُّ في شاعرها، الرائد الآخر، أنسي الحاج، إذ أظهرتُ، في إحدى دراساتي عنه،

تأثره البادي في قصائده في مجلة “شعر” بالشاعر رامبو كما بأنطونين أرتو. وهذا يصح،

في دراسة اخرى لي، عن تأثر شوقي أبي شقرا برواد هذه القصيدة في فرنسا…

إلا أن هذا القول – لو طلبتُ التدقيق – يصحُّ في أيِّ شعر عربي حديث، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، حيث نجد ترجمة الشعر الكلاسيكي الأوروبي وغير الكلاسيكي تجاورُ قصائد التجديد العربية المبنية وفق أكثر من منوال شعري. وهذا ما يمكن للناقد متابعته في كثير من الشعر المتأخر، حتى إنني وجدت، في أحد كتبي، أن نزار قباني “سرق” بالتمام والكمال قصيدة: “مع جريدة” من الشاعر الفرنسي جاك بريفير؛ بل وجدتُ أكثر من هذا، وهو تأثره البادي، منذ بداياته، بالشاعر الفرنسي بول جيرالدي… هذا ما يناسب تأثرات أحمد شوقي، قبله، بالشعر الحكيم على ألسنة الحيوانات، عند الشاعر الفرنسني جان دو لافونتين… كما يناسب تأثرَ أدونيس الباكر بالشاعر الفرنسي سان-جون برس. وهو ما يصح في كثير من الشعر المتأخر، في تأثرات شعراء بالنثر عديدين، بقصيدة يانيس ريتسوس اليوناني، أو بشعر “الهايكو” الياباني.

مع ذلك أقول وأكتب وأؤكد أن الترجمة قد تفيد – أيَّا كان نوع الشعر – في تدبر “موضوع”، أو في “تصيُّد” جملة، أو في احتذاء مَيْل تعبيري في قصيدة… إلا أن هذه التأثرات، العمدية أو العفوية، لا تذهب بطبيعة الشعر، وهي أنه بناء لغوي: بناءٌ يتشكَّلُ في لغته، ويقوم بها.

يتوجب القول، فضلًا عن هذا، إن التأثيرات “تتموضع” بدورها وفق ثقافة الشاعر المحتذي، ووفق لغته. هذا يعني أن الترجمة ليست بالنقل إلا في أحوال قليلة (“السرقة” بالمعنى الحصري والدقيق)، وإنما هي إعادة تأويل، إعادة كتابة، بالضرورة. وهو ما لا يتمُّ إلا وفق مطلوب، وإمكانات، ومرغوبات، الشاعر المتأثر.

لهذا أعتقد أن شبكة التعالقات والتأثرات بين شعرنا وشعر الغير، بما فيه الشعر بالنثر، تبقى مرتبطة بالتقبل المحلي لا.

دليل واحد يكفي: كيف يمكن تفسير أن القصيدة “التموزية” المتأثرة بصنيع تي إس اليوت أعلتْ من المتكلم في القصيدة المحلية، وجعلته أنا “متضخمة” (بالمعنى النفسي-الاجتماعي- الشعري)،

لا فردية؟

دليل أخر: كيف يحدث أن تمثل الهامشية في القصيدة بالنثر لم يُخفِ الأنا “المتورمة” (بالمعنى النفسي-الاجتماعي-الشعري)، فيما أنا الشاعر رامبو متشظية: “أنا هو آخر”؟

أكتب هذا من قبيل التبين والنقاش، إلا أنني أعتقد أن العلاقات بين الترجمة والإبداع تبقى غير مستحبة

في الشعر بالنثر، وفي غيره من الشعر، ما دام أنني أنظر إلى الشعر بوصفه التجلي الأبعد للإنسان

في الشاعر، وللشاعر في الإنسان، والتشكلَ الأجملَ لإمكانات التعبير في الثقافة عبر اللغة؟

فالشعر، إذ يستعمل اللغة، يجدد حياتها، ويُطلق إمكانات التجاور الحيوي بين ألفاظها وتراكيبها،

ويفتح في الألفاظ فتحات التخيل. وهذا مطلوب ربما أكثر في القصيدة بالنثر،

ما دام أنها تحررت من قيود الوزن والقافية لتطلق قابليات أخرى ممكنة، في البناء، في المعنى،

وهو ما لا يستقيم مع التأثر الخفيف بالترجمة.

السابق
قصة نجاح الحسن بن الهيثم
التالي
بحث عن كيان النص وإمكانات النقد العربي

اترك تعليقاً