أروع القصص.. قصة العباس بن الأحنف و الجارية التي شغف بها

أروع القصص.. قصة العباس بن الأحنف و الجارية التي شغف بها

حدث أبو العباس محمد بن يزيد المبرد قال: حدثنا محمد بن عامر الحنفي،

وكان من سادات بكر بن وائل، وأدركته شيخا كبيرا مملقا، وكان إذا أفاد على إملاقه شيئا جاد به،

وقد كان قديما ولي شرطة البصرة، فحدثني هذا الحديث الذي أذكره، ووقع إليّ من غير ناحيته،

ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان، إلا أن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك:

ذكر أن فتيانا كانوا مجتمعين في نظام واحد، كلهم ابن نعمة، وكلهم قد شرد عن أهله وقنع بأصحابه،

فذكر ذاكر منهم قال:

كنا قد اكترينا دارا شارعة على أحد طرق بغداد المعمورة بالناس، وكنا نفلس أحيانا ونوسر أحيانا،

على مقدار ما يمكن الواحد من أهله، وكنا لا ننكر أن تقع مئونتنا على واحد منا إذا أمكنه،

ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء، فيقوم به أصحابه الدهر الأطول، وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه، ودعونا الملهين والملهيات، وكان جلوسنا في أسفل الدار، فإذا عدمنا الطرب جلسنا في غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس؛ وكنا لا نخلّ بالنبيذ في عسر ولا يسر؛ فإنا لكذلك يوما إذا بفتى يستأذن علينا، فقلنا له: اصعد. فإذا رجل نظيف، حلو الوجه، سريّ الهيئة، ينيء رواؤه على أنه من أبناء النعم؛ فأقبل علينا فقال: إني سمعت مجتمعكم، وحسن منادمتكم! وصحة ألفتكم، حتى كأنكم أدرجتم جميعا فى قالب واحد: فأحببت أن أكون واحدا منكم فلا تحتشموا.

قال: وصادف ذلك منا إقتارا من القوت؛ وكثرة من النبيذ، وقد كان قال لغلام له: أول ما يأذنون لي أن أكون كأحدهم، هات ما عندك. فغاب الغلام عنا غير كثير، ثم أتانا بسلّة خيزران، فيها طعام المطبخ، من جدي، ودجاج، وفراخ، ورقاق ، وأشنان، ومحلب ، وأخلة ؛ فأصبنا من ذلك، ثم أفضنا في شرابنا.

وانبسط الرجل، فإذا هو أحلى خلق اللَّه إذا حدّث، وأحسنهم استماعا إذا حدّث، وأمسكهم عن ملاحاة إذا خولف؛ ثم أفضينا منه إلى أكرم مخالقة، وأجمل مساعدة؛ وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه، فيظهر لنا أنه لا يحب غيره، ويرى ذلك في إشراق وجهه؛ فكنا نغني به عن حسن الغناء، ونتدارس أخباره وآدابه؛ فشغلنا ذلك عن تعرّف اسمه ونسبه، فلم يكن منا إلا تعرّف الكنية، فإنا سألناه عنها فقال: أبو الفضل.

فقال لنا يوما بعد اتصال الأنس: ألا أخبركم بم عرفتكم؟ قلنا: إنا لنحب ذلك.

قال: أحببت جارية في جواركم، وكانت سيدتها ذات حبائب ؛ فكنت أجلس لها في الطريق ألتمس اجتيازها، فأراها؛ حتى أخلقّني الجلوس على الطريق ورأيت غرفتكم هذه، فسألت عن خبرها، فخبرت عن ائتلافكم وتمالئكم، ومساعدة بعضكم بعضا؛ فكان الدخول فيما أنتم فيه أسرّ عندي من الجارية. فسألناه عنها فخبرها، فقلنا له:

نحن نختدعها حتى نظفرك بها! فقال: يا إخواني، إني واللَّه على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها، ما قدّرت فيها حراما قط ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمنّ اللَّه بثروة فأشتريها! فأقام معنا شهرين، ونحن على غاية الاغتباط بقربه، والسرور بصحبته، إلى أن اختلس منا، فنالنا بفراقه ثكل ممضّ، ولوعة مؤلمة، ولم نعرف له منزلا نلتمسه فيه؛ فكدر علينا من العيش ما كان طاب لنا به، وقبح عندنا ما كان حسن بقربه، وجعلنا لا نرى سرورا ولا غمّا إلا ما ذكرناه، لاتصال السرور بصحبته وحضوره، والغمّ بمفارقته؛ فكنا فيه كما قال الشاعر:
يذكّرنيهم كلّ خير رأيته
وشرّ، فما أنفك منهم على ذكر

فغاب عنا زهاء عشرين يوما، فبينما نحن مجتازون يوما من الرصافة، إذا به قد طلع في موكب نبيل، وزيّ جليل، فلما بصر بنا انحط عن دابته وانحط غلمانه، ثم قال: يا إخواني، واللَّه ما هنأني عيش بعدكم، ولست أماطلكم بخبري حتى آتى المنزل، ولكن ميلوا بنا إلى المسجد. فملنا معه، فقال: أعرّفكم أولا بنفسي، أنا العباس بن الأحنف؛ وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم؛ فإذا المسوّدة محيطة بي، فمضي بي إلى دار أمير المؤمنين، فصرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي:

ويحك يا عباس! إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء، لقرب مأخذك، وحسن تأتّيك! وإن الذي ندبتك له من شأنك؛ وقد عرفت خطرات الخلفاء، وإني أخبرك أنّ ماردة هي الغالبة على أمير المؤمنين اليوم، وأنه جرى بينهما عتب؛ فهي بدالة المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك؛ وقد رمت الأمر من قبلها فأعياني، وهو أحرى أن تستعزّه «1» الصبابة؛ فقل شعرا يسهّل عليه هذه السبيل.

فقضى كلامه.

ثم دعاني إلى أمير المؤمنين، فصرت إليه وأعطيت قرطاسا ودواة، فاعتراني الزّمع «2» وأذهب عني ما أريد الاستحثاث؛ فتعذرت عليّ كلّ عروض «3» ، ونفرت عني كل قافية؛ ثم انفتح لي شيء، والرسل تعنتني؛ فجاءتني أربعة أبيات رضيتها، وقعت صحيحة المعنى، سهلة الألفاظ، ملائمة لما طلب مني؛ فقلت لأحد الرسل: أبلغ الوزير أني قلت أربعة أبيات، فإن كان بها مقنع ووجهت بها. فرجع إليّ الرسول بأن هاتها، ففي أقل منها مقنع. وفي ذهاب الرسول ورجوعه قلت بيتين من غير ذلك الرويّ، فكتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة، وعقّبت بالبيتين، فقلت:
العاشِقانِ كِلاهُما مُتَغَضِّبُ
وَكِلاهُما مُتَشَوِّقٌ مُتَطَرِّبُ
صَدَّت مُراغِمَةً وَصَدَّ مُراغِماً
وَكِلاهُما مِمّا يُعالِجُ مُتعَبُ
راجِع أَحَبَّتُكَ الَّذينَ هَجَرتَهُم
إِنَّ المُتَيَّمَ قَلَّ ما يَتَجَنَّبُ
إِنَّ التَجنُّبَ إِن تَمَكَّنَ مِنكُما
دَبَّ السُلُوُّ لَهُ فَعَزَّ المَطلَبُ

ثم كتبت تحت ذلك:
لابُدَّ لِلعاشِقِ مِن وَقَفَةٍ
تَكونُ بَينَ الوَصلِ وَالصَرمِ
حَتّى إِذا ما مَضَّهُ شَوقُهُ
راجَعَ مَن يَهوى عَلى رُغَمِ

ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى بن خالد، فدفعه إلى الرشيد، فقال: واللَّه ما رأيت شعرا أشبه بما نحن فيه من هذا، واللَّه لكأني قصدت به! فقال له يحيى: وأنت واللَّه يا أمير المؤمنين المقصود به؛ هذا يقوله العباس [ابن الأحنف] في هذه القصة، فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله:

راجع من يهوى على رغم

استغرب ضاحكا حتى سمعت ضحكه، ثم قال: إي واللَّه، أراجع على رغم! يا غلام، هات نعلي. فنهض، وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء؛ فدعاني يحيى وقال:

إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة، وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لك بشيء. قلت: لكن هذا الخبر ما وقع مني بغاية الموافقة! ثم جاء غلام فسارّه، فنهض وثبت مكاني ثم نهضت بنهوضه؛ فقال لي: يا عباس، أمسيت أنبل الناس! أتدري ما سارّني به هذا الرسول؟ قلت لا. قال: ذكر لي أن ماردة تلقّت أمير المؤمنين لما علمت بمجئيه، ثم قالت: يا أمير المؤمنين، كيف كان هذا؟ فناولها الشعر، وقال: هذا أتى بي إليك! قالت: فمن يقوله؟ قال: عباس بن الأحنف. قالت: فيم كوفىء؟ قال: ما فعلت شيئا بعد. قالت: إذا واللَّه لا أجلس حتى يكافأ! قال: فأمير المؤمنين قائم لقيامها وأنا قائم لقيام أمير المؤمنين، وهما يتناظران في صلتك، فهذا كله لك. قلت: ما لي من هذا إلا الصلة! فقال: هذا أحسن من شعرك.

قال: فأمر لي أمير المؤمنين بمال كثير، وأمرت لي ماردة بمال دونه، وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به! وحملت على ما ترون من الظّهر! ثم قال الوزير: من تمام اليد عندك أن لا تخرج من الدار حتى يؤهل لك هذا المال ضياعا. فاشتريت لي ضياع بعشرين ألف درهم، ودفع إليّ بقية المال.

فهذا الخبر الذي عاقني عنكم، فهلموا حتى أقاسمكم الضيّاع، وأفرق فيكم المال قلنا له: هنأك اللَّه، فكل منا يرجع إلى نعمة من أبيه. فأقسم وأقسمنا فقال:

[فتكونون] أسوتي فيه. فقلنا: أما هذه فنعم. قال: فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها. فمشينا إلى صاحبها، وكانت جارية جميلة حلوة، لا تحسن شيئا، أكثر ما فيها ظرف اللسان وتأدية الرسائل، وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار؛ فلما رأى مولاها ميل المشتري استام بها خمسمائة، فأجبناه بالعجب فحط مائة، ثم قال العباس: يا فتيان، إني واللَّه أحتشم أن أقول بعد ما قلتم، ولكنها حاجة في نفسي، بها يتم سروري، فإن ساعدتم فعلت. قلنا له: قل قال هذه الجارية أنا أعاينها منذ دهر، وأريد إيثار نفسي بها؛ فأكره أن تنظر إليّ بعين من قد ماكس في ثمنها! دعوني أعطيه بها خمسمائة دينار كما سأل! قلنا له: وإنه قد حط مائتين. قال: وإن فعل. قال:

فصادفت من مولاها رجلا حرّا، فأخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين! فما زال إلينا محسنا حتى فرق الموت بيننا.

السابق
قصة الفلاح الطماع والإوزة الذهبية
التالي
قصة واقعية حقيقية حزينة ومؤثرة..قصة الفتاه العمياء

اترك تعليقاً